نقلاً عن المصري اليوم
كتبت : أمل سرور
خرجنا من العريش
وسط أجواء متوترة معجونة بالتوجس والقلق والارتياب اتجهت سيارتنا إلى تلك المدينة!!
سيارات الشرطة وصديقاتها المدرعة تنتشر فى جميع أرجاء الشوارع.. ما إن تقع عيناك عليها إلا ويتسرب إليك إحساس بأن حرباً ما قائمة أو على وشك القيام!!
كمائن أمنية لا حصر لها مرت عليها سيارتنا. وعند كل كمين كانت دقات قلوبنا يكاد أن يسمعها الساكن فى قلب القاهرة.. فجنيننا من العمل الصحفى لم يكتمل ولسنا على استعداد أن نسمع مهاترات وأوامر بالرحيل من جزء من أرضنا!!
تلك كانت حالتنا طوال الطريق من العريش إلى مدينة «الشيخ زويد».
هادئة وصغيرة وفقيرة لا تختلف كثيراً عن عاصمة شمال سيناء «العريش».. سكانها منذ قديم الزمن ما هم إلا أخلاط من خان يونس والعريش هبطوا إليها منذ مئات السنين وأسسوها على أنقاض بلدة قديمة العهد تدل آثارها على أنها كانت على جانب عظيم من المدنية والعمران، عندما سألت مرافقى «علاء الكاشف» من هو الشيخ زويد؟
أجابنى قائلاً.. شيخ من الشيوخ القدامى ولكنه كان محبوباً ويتمتع بشعبية ما بين القبائل، وإلى الآن تدور «خناقة» على انتمائه، «فقبيلة السواركة» يدعون أنه من أجدادهم ولكن سائر القبائل تنكر عليهم هذه الدعوى،
ويقولون إنه من الصحابة وقبة الشيخ زويد كان يزورها منذ القدم عابرو السبيل والسواركة وكل بدو الجزيرة، وفى كل سنة بعد الحصاد يقيمون عندها الأفراح ثلاثة أيام ويذبحون الذبائح ويقيمون الولائم وسباق الإبل والهجن وكان يوجد بجانب القبة قبر زايد ومزيد، ويقال إنهما من إخوة «الشيخ زويد».
عندما أنهى مرافقى حديثه، كنا قد انتهينا من جولتنا فى مدينة «الشيخ زويد».. فعشر دقائق كفيلة بأن تلف وتدور فى أنحائها فبادرت «علاء» بالسؤال: إذن من أين نبدأ ومن عند من ستكون نقطة انطلاقنا؟!
أجابنى مسرعاً من عند الشيخ «عايش سليمان بن عويضة» أشهر قاض عرفى فى «الشيخ زويد»، ومن أحد أهم شيوخ قبيلة «الترابين».
لحظات وكنا أمامه فى منزله.. رجل يقترب من السبعين من العمر تستطيع أن تقرأ أحداث وآلام السنين ما إن تنظر إلى ملامح وجهه التى حفرتها التجاعيد!
بترحاب ومودة وكرم اعتدنا عليه فى كل بيوت أهالى سيناء التى دخلناها استقبلنا.. فى البداية بدا «الحاج عايش» هادئاً عندما تحدثت معه عما سمعته ورأيته من البدو الذين تكلمت معهم وعن حالة الاستنفار الموجودة تجاه الشرطة وفجأة ودون مقدمات قاطعنى صارخاً: اسمعى يا بنيتى أنا هقولك المفيد، هقولك على اللى بداخلى وبداخل كل أبناء سيناء وبصراحة..
التزمت الصمت تماماً عندما تناول رشفة من المياه ثم استطرد عاصفاً ثائراً قائلاً..
الدولة حاصرتنا وسجنتنا فى سجن كبير اسمه سيناء.. عاوز أبكى.. ما بيعاملونا زى البنى آدمين!!
إحنا محرومين من أدنى متطلبات الحياة.. بنشرب مياه حلوة بنشتريها بالجراكن، ما عندنا مستشفيات اللهم إلا عيادات قذرة ولا يوجد بها أطباء والموجودين شوية عيال بيتعلموا فينا!!
أولادنا اللى بيتخرجوا من المدارس والجامعات هم أنفسهم اللى بينحرفوا، لأن مفيش شغل ولا لقمة عيش تتاكل طيب هيعملوا إيه الحكومة من قدامهم بسلاحها والجبل فاتح لهم دراعاته.
إحنا عاوزين المحافظ «ومحرمته» فى إيده يلف على الناس فى البيوت عاوزين واحد مسؤول مش واحد بيقعد ساعتين فى مكتبه وبعدين يروح استراحته!!
بيقولوا علينا بدو يعنى إيه مش بشر يعنى جايين من كوكب تانى، يعنى مش عربى ولا مش مصرى، إحنا مصريين غصب عنهم شاءوا أم لم يشاءوا، إحنا عملنا اللى ما حدش عمله لسيناء ومصر واللى بيقول علينا خونة وعملاء لإسرائيل إحنا أشرف منه أنا أمى ماتت وفى جسمها ١٦ طلقة من الإسرائيليين.. أمى الله يرحمها اسمها «سالمة سليمان» كانت بتفصل للعساكر المصريين جلابيب زى البدو علشان اليهود ما يعتروش فيهم ويكتشفوهم ولما حصل ضرب نار على المنطقة أمى اتصابت بـ ١٦ طلقة وعاشت ٣ سنين مشلولة، عمى حسن مات لما انفجرت فيه قنبلة.
«أنا اتمليت وصبرى كنز ونفد».. صمت «الحاج عايش» فلقد كانت دموعه كفيلة ليست بإسكاته فقط بل بنزول سهم الله علينا جميعاً!!
ما أصعب أن ترى الدموع فى عين رجل عجوز فى مرتبة جد من جدودك.. وما أصعب أن تكون بلا حيلة سوى ذاك القلم الصغير وتلك الوريقات التى أمامى الآن..
مسح العجوز دموعه بيديه قائلاً.. تصورى لما أبقى راجل عجوز فى العمر ده وأركب أتوبيس وييجى ضابط فى عمر أحفادى ويأمرنى بلهجة قليلة الحياء بأن أنزل من الأتوبيس وسط ما يقرب من مائة راكب.. لأخضع لتفتيشات تصل إلى حد سروالى وعندما أقول له «ليه يا بنى كده» يسبنى قائلاً «أنا مش ابنك يا ابن كذا.. وكذا..»!!
تصدقى يا بنيتى والله ما بكدب عليك بس أنا بافكر فعلاً أعمل كده.. أجيب عربية وأحمل أولادى وأحفادى وأمشى على ليبيا ولا الأردن ولا أى دولة أنا مش قادر أبقى شبيح ولا حرامى ولا قادر أعيش هنا مفيش حل «غصب عنك هيخلونا ننفجر».
■ هنا فقط قاطعته قائلة.. طيب إفرض إسرائيل فتحت الحدود وقالت لكم تعالوا..
ـ بعصبية زائدة وبصوت جهورى أجابنى: إحنا عمرنا ما نروح إسرائيل.. البلد الصهيونية دى هى اللى قطعت إخواتى حتت أروح لها إزاى.. مهما ضيقت علينا الدولة المصرية وبهدلتنا أبداً ما هو ممكن أروح.. أنا دخلت السجون الإسرائيلية عام ١٩٦٩ وعذبونى وحطونى فى غرفة بيقولوا عليها التسخين فى درجة حرارة عالية جداً وبعدها أدخلونى غرفة درجة برودتها عالية.. وعلقونى وضربونى وقتلوا أمى.. وتقول لى أروح لهم برجليا.. نار مصر ولا جنة إسرائيل يا بنيتى..
إحنا بس عاوزين مسؤول ضميره حى يخدمنا، إحنا عاوزين الحق وإحنا ضد أى ممنوعات.. عاوزين الضباط يفهموا طبيعة ناس سيناء، مع الأسف هم مش فاهمين.. الست اللى هى الزوجة أو الأم أو الأخت بالنسبة للبدوى منطقة محرمة لما الضابط يأخد نسوان البدو ويحتجزهم علشان الواحد منهم يسلم نفسه.. ده فى المجتمع البدوى تطير له رقاب وده مش بيهدى بالعكس بيخلى الدنيا تولع.. أنا واحد من الناس قاضى عرفى وعندى ٧٠ سنة أقسم بالله لو أخدوا نسوانى لأدور على الضابط اللى خدهم وأروح فيه فى ٦٠ داهية..
دى مشاعرى وأنا عمرى ٧٠ عاماً ما بالك بمشاعر الشاب اللى فى العشرينيات..
يا ناس عاوزين ناس تفهم طبيعة المجتمع وتدرس عاداته وتقاليده قبل ما تتعامل معانا علشان ما تقومش كوارث ومصائب تتعسنا وأكيد هتسعد عدونا اللى واقف لنا بالمرصاد وعلى بعد كيلومترات محدودة..
بلاش تخلوا إسرائيل تصطاد فى الميه العكره.. أنهى الحاج «عايش عويضة» حديثه فلم أملك سوى أن أصمت قليلاً.. لقد أفحمنى العجوز وأضاء لى نقاطاً كثيرة كانت مظلمة.. هكذا حدثت نفسى وأنا أغادر منزله لأذهب بقدمى إلى مكان الصخرة.
أما عن المكان فهو صخرة «موشى ديان».. وصلنا عندها ونقف أمامها الآن وطبعاً لم نأخذ شرف تصويرها علشان ممنوع.. لأ وكمان عليها حراسات أمنية مشددة!!
اسمعوا معى حكاية الصخرة:
الصخرة يصل ارتفاعها إلى ١٢ متراً وعرضها ٣ أمتار والحقيقة أن مكانها عبقرى، فقد وضعت بعناية على ربوة عالية بساحل البحر فى منطقة مفارق طرق.
أما عن شكلها فشوف معايا.. إذا نظرت إليها من جميع الاتجاهات ستعطيك أشكالاً مختلفة فتراها تارة خريطة فلسطين التى مازالت مغتصبة من الأيادى الصهيونية، التى بنيت تلك الصخرة!! وإذا غيرت اتجاه رؤيتك لها ووقفت مثلى وسط أشجار النخيل القديمة تراها وكأنها خريطة سيناء رسمت مقلوبة أو منكسة ـ على عمرهم ـ وإذا نظرت من جهة أخرى تراها وكأنها امرأة بدوية.
أما الوجه الرابع والأخير للصخرة فهو النقوش التى تشاهدها عندما تقترب منها وهى ترمز لسلاح الطيران الإسرائيلى وقد نقشت على جدرانه أسماء ١١ طياراً إسرائيلياً تخلد إسرائيل ذكراهم بعدما أسقطت المضادات المصرية طائرتهم خلال معارك الاستنزاف عقب هزيمة ١٩٦٧، وتحديداً عندما كانت طائرتهم تقوم بمهام تجسسية اكتشفها رجال المقاومة الشعبية بالعريش ليثبتوا أن الرادار البشرى لأهل سيناء أقوى بكثير من أحدث أجهزة الرادار المزودة بأحدث التكنولوجيا فى الجيش الإسرائيلى.
إذن هذه هى الحكاية..«موشى ديان» أقام هذه الصخرة تخليداً لذكرى الـ ١١ طياراً لأ وتعالوا بقى كمان نشوف الصخرة اتبنت إزاى؟!
الحكاية إنهم ـ يعنى اليهود ـ نحتوها من جبل النبى موسى عليه السلام وأتوا بها من جنوب سيناء لأقصى شمالهااللى ما تعرفهوش.. إن المكان ده اللى شهد مقتل الـ ١١ طياراً إسرائيلياً هو ذات المكان الذى شهد أبشع مجزرة بشرية قتل فيها ٣٠٠ من أفراد قواتنا المسلحة عند انسحابهم من سيناء عام ١٩٦٧ على أيدى القوات الإسرائيلية.
يا ترى بقى ديان لما اختار المكان ده كان بيخلد ذكرى الـ ١١ طياراً ولا بيحتفل بقتل الـ ٣٠٠ مصرى علشان ماننساش!!
أصل الملحق رقم (١) للمادة الثانية من اتفاقية كامب ديفيد ألزمت مصر إلزاماً قاطعاً حاسماً بضرورة الحفاظ على النصب التذكارية المقامة فى سيناء واحترامها ولأننا ملزمون بالمعاهدة.. فيبقى لازم نحافظ على هذا النصب التذكارى ويبقى كمان لازم نحرسه
شعرت بالاختناق ولم أستطع الوقوف أكثر من ذلك.. فقط ارتميت على كرسى السيارة التى انطلقت وانطلقت ذاكرتى معها عندما رأيت جثث الأسرى المصريين ومطاراتنا التى اغتالوها فى ٦٧، ومدرسة بحر البقر التى قطفوا فيها ثمار أطفالنا التى لم تنضج بعد..
وتذكرت ما تفعله أيديهم الملوثة فى مقدساتنا بفلسطين الأقصى والقيامة والمسجد الإبراهيمى وغيره وغيره.. والمذابح التى ارتكبت ولاتزال ترتكب فى حق الشعب الفلسطينى وقانا والنبطية والحصار المفترس اللاإنسانى للأهل فى غزة..
أفقت من حالتى على سؤال سألنى إياه مرافقى «علاء».. هل تحبين أن تلتقى بصاحب الأرض التى بنيت عليها صخرة ديان؟!
قلت له.. طبعاً وفوراً.
إذن فعلينا بالمجاهد الشيخ إسماعيل خطابى