خلف نافذة صغيرة مصلوبة بحائط حجرته ،كان يرقب هذا الغروب الموحش المُغلف بضباب أبكم وغيوم
قادمه فى الطريق ،يتمحمح بوجه ذرذرة الرياح مُثخن باللاشعور، يَختّال الآرق على جفنه العلوى فأبى أن
يعانق شقيقه- ربما مِنْ لقاء نهار كان فى إنتظاره ؛ فلقد أنهكته عزله الدجى التى يُسامرها كل ليله بعد أن
أتتّ به إرادته لتطأ قدماه هذا المكان الكئيب. معانى كثيرة وأشياء سُحقت كانت فى السابق لها مذاق يعشقه؛
شهقه برق أربكت أعماقه لتندلق ذاكرته بغتة وتتبعثر الصور فى رأسه لا يبقى منها غير صورته، عندما
أتاه يرتعد فى هذه الليلة البائسه ؛ لم يخطئ يوما فى قراءة تقاسيمه منذ نعومه أظافرهم ...
البرد ليس السبب ، وإنما لإرتكابه حماقه ما ! فزنرته الدهشه بحبال مِنْ مَسدْ..
لَمْ يتحمل فيها قطرات الرجاء الحارقه المسروقه من دمه ، تَركه ليذهب إلى مستقبله الباسم.
زوجته الحامل وإبنته ... ناشب فى القلب غصة مازالت تُدغدغ أضلعه... مرت سنون عِجاف
أشعلت الشيب ذوائبة ...وانثال الجفاء بأخاديد حفرها الزمن...
امتنع فيها الآخر لِقائه؛ فسقط بين مخالب فولاذية مِنَ التساؤلات أدمت عصلبه
بإنغراساتها الحادة ، غامت عيونه بالدمع فترنح برهه وأخذ يتوكأ على جدران مُعتقه بآنفاس كريهه؛
كانت جديرة بسحق عظامه طوال هذه المده ، استقر بزاوية تلوح بضياء سقيم ملتوى ؛
يسبح فى المجهول بين أحلام مُجهضة وأفكارسوداوية تبث تلافيف دماغة ،
يوسوس نفسه بتهدج : كيف استقبل غداً معدم بماضٍ مازال دبيبه يسرى بأوصالى ينخر جوارحى
ويتركها صدئه ايله للسقوط ؛ حتى أضحى الشروق يغمغم، ليحمله خارج هذه البوابة المسيجة بقضبان
معدنية، فيتنفس ولا أول مرة الآمل القابع فى وجه النهار..دفن جزعه خلف أضلعه ورسف بلا غاية بين
حذاء العابرين ،تصلصل بجاربه قطعته التى شاطرته نفحات العسف والقهر لتفثأ لوعته _ لثمها بين يديه
ليلفظ من نواح روحه ترنيمة عزاء .